مقالات

أحمد بن يوسف الحارثي.. شيخ الدبلوماسية العُمانية

زاهر بن سيف بن سلطان المسكري*

   نعزي أنفسنا فيه أولا، شيخ الدبلوماسية العمانية المعاصرة وتلميذ مدرسة السلطان قابوس الفكرية، شيخنا أحمد بن يوسف بن عبيد الخنجري الحارثي، المولود والمترعرع بطفولته في قناطر ولاية إبرا، ذات القصور الشامخة والمقاصير العامرة بين سفح الجبل وبساتين النخيل وأفلاجها بخرير انسكاب الماء بين صُوارٍ وصُوار والمتخللة بسواقيها بعبق خصوصية الهندسة الزراعية العمانية المتجذرة منذ القدم وروحانيات المكان العتيق الذي يخاطب الروح قبل القلب.

والاستشعار براحة شهيق الرئتين التلقائية بالهواء الممزوج بعطر المكان، بل وحتى شذى تلك الروائح الناتجة عن حرق مخلفات النخيل في البساتين من صرَّام الفسائل في أمهاتها، بين غشون وعواوين عمة الإنسان وبين مغفوفٍ ومشروطٍ وعذوق متدلية ذات قطوف دانية وكأنها صورة للجنان.

رزقنا الله إياها جميعًا معشر القراء مع فقيدنا الذي تقدمنا لدار الآخرة.

وكذلك الأدخنة الناتجة عن حرق مخلفات الحشائش ووريقات اللَّمْبا والزيتون العماني (الجوافة) والليمون والنارنج والسفرجل، تلك الأدخنة وكأنها اللبان بعبق آخر، طاردة لكل الطاقات السلبية، مُطهرة للقرية بأكملها إذا ما حملها الهواء بعيدا.

… ولن ننسى أصوات مناجير الزواجر ونغماتها في القرى بين علاية إبرا وسِفالتها من الآبار المساندة للري وتداخل أصوات المواشي والأطيار، وأصوات كارجة سبلة القناطر ومرتع النسَّاجين تحت ظليل الزامَّة والصبارة التي تعلوها، واشجار السوقم العملاقة أسفل الوادي الغربي المتاخمة للبوابة الشمالية من السفالة والملاصقة لحلة أو حارة كشام لبني عرفة وحتما سيكون لديك الشعور وكأنك في حي تتشابه أصواته بمعزوفات لأرقى سيمفونيات الموسيقى في العالم، أو كأنما الأوبرا العملاقة استمدت طاقاتها من سائر القرى العمانية وتقديم لحن يُؤدى باحترافٍ عازفين في النغم والتناغم المحسوس طرباً .

تجري الأيام، وتسوقه بين حاضرة البيت الكريم وأخواله أبناء ناصر بن سالم وسعيد بن سالم بن سيف… (صالح ومحمد ويحيى وابن عمهم عبد الله بن سعيد بن سيف) أولئك السابقون له لدار الاخرة. (وعلي/ وعبد الله بن ناصر) نسأل الله لهم العمر المديد.

ولا ننسى حضن العلم في جامع القناطر وفلج أبو مخرين (منخرين) لسِفالة إبرا وكأني أسبقه عمراً وأراه تخيلاً يسوق الغنم في سكيك القصور الشبيهة بقرطبة واشبيلية وغرناطة فيجبرها مع الأطفال لتسرح غرباً من ناحية البوابة الحدرية للقناطر، لتخرج إلى المراعي صَباحاً ثم ليعود سريعا إلى البيت فيحمل مصحفه إلى الجامع المذكور لتعلم أبجديات القاعدة البغدادية وحروفها الهجائية (ألف ليس له.. هكذا) والباء تحتها نقطة والتاء فوقها نقطِّين (هكذا) والثاء فوقها ثلاث نقط مع أقرانه وأخواله القريبين منه عمرا… ثم شاءت الأقدار بعد ذلك أن يرحل مع أبيه والالتحاق بخناجرة الحرث أعمام أبيه بموطنهم بالمضيرب بولاية القابل ليكون لاحقا من رموزها والاختلاط بمشايخ العلم المعروفين في حاضرتها والذين كانت تضرب إليهم أكباد الإبل أمثال الشيخ سالم بن حمد الحارثي.

تلك صورة مصغرة لما كانت عليه طفولته وبعد فقد أمه وهو في الرابعة من عمره!

ونذكر ممن جالسهم أمثال فضيلة المفتي العام للسلطنة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي وقد شاهدته إذا ما رآه في مسجد آل البيت بمدينة السلطان قابوس يجله إجلال التلميذ لمعلمه وكذلك فضيلة الشيخ الجليل المرحوم سعود بن علي الخليلي وزير المعارف في بداية النهضة والشيخ علي بن سليمان الإسماعيلي من قرية النصيب بإبرا والشيخ سعيد بن خلف الخروصي. كان أصدقاؤه كل من المشايخ زاهر وحمد ابناء حمد بن سليمان الحارثي. وممن يحرص على زياراتهم امثال الشيخ القاضي العالم ناصر بن راشد المنذري.

ومن اللطائف الجميلة أني وإياه قد انطلقنا يوماً الى سناو لزيارة الشيخ العالم الرباني والمربي الجليل فضيلة شيخنا الكريم حمود بن حميد الصوافي وقد كان الشيخ أحمد الحارثي يتوق شوقاً إلى لقاء هذا العالم والقامة المعاصرة، وبعد تنسيق عبر الهاتف معه بسناو يستقر الاختيار على يوم الاثنين القادم من أيام الاسبوع…

وقبل ذلك بيوم قال لي يا زاهر متى نخرج؟

فأجبته مباشرة بأن نسري خارجين على الساعة الثالثة والنصف قبيل الفجر، وانه من واقع خبرتي وانشراح صدري بان أَمتع ما يكون لنا في زيارة الشيخ المرتقبة، أداء صلاة الفجر بمسجده في منطقة المغدر من سناو ومن ثم النهل من جل جدول يومه بين عبادة وقراءة فاستماع وإطلاع وكأنك قد وصلت عابدًا إلى مكة، لكن الشيخ أحمد وبلهجة أهل المضيرب داهمني بخمس لاءات مضيربية اللكنة المعهودة بين أهلها!! إذ قال: ولدي زاهر أنا ما عسكري مثلك تغزي بنا في الليل، تراه الدنيا بخير.

.. انا تربيت مدنيًا ودعنا نخرج على التاسعة كمدنيين!.

وبعد التفاوض خرجنا في حدود السابعة صباحا، ونحن في بداية الانطلاق بسيارته قال لي ان العودة من هناك نريدها على الحادية عشرة والنصف …فضحكت.

وقال لي ماذا تقصد؟

لأقول مجاوباً: إن عودتنا لن تكون إلا على الحادية عشرة والنصف ليلاً!

تبهَّت قليلا باستغرابٍ لأقول له: إنك حتما ستدخل اليوم مع الشيخ حمود في نزال تفاوضي خاسر وبدوري سأرى اليوم من سيفوز بين العالم الربَّاني في مفاوضاته أم عالم السياسة والخبير المخضرم الذي خاص المفاوضات والخبرة.

لقد كان استفزازاً لطيفًا نقياً وهكذا وقع بسبب أريحية الانسجام والحوار ليساورني الاحساس انه قال: التحدي اذن مع الشيخ حمود رغم أني سألقاه لأول مرة!

…. فوالله لقد عدنا كما قلت في تمام الحادية عشرة والنصف صدفةً بتمام الدقيقة وبعد يوم حافل بكل انشراح بين شبع علم وعبادة وضيافة وقيلولة، بل حتى النوم! وهكذا هم طلبة العلم عنده.

وانطلاقنا بعد صلاة العصر إلى قرية إمطي بولاية إزكي لافتتاح مسجد جديدٍ تخلله الأدب والشعر والكرم والرياضة التي سبقت الغروب وأذكار المساء، وظل يقول لي: تالي الأيام ان تلك اليوم في معية الشيخ حمود الصوافي كانت من أمتع أيام حياتي رغم التجوال حول العالم.

لقد كان الشيخ أحمد بن يوسف صديقا أبويا وكنا له جلساء ورفقاء درب وتوافق أرواح … عرفناه هادئا آسراً وجنديا وطنيا وخطيبا منبرياً في صلوات الجُمع إذا ما نظر المسلمين الأعاجم من الوفود الزائرة لهم من العرب في يوم جمعة فتنعدم الوفود من خطيب إلا أُسُودًا من أهل عمان ليعتلي المنبر خطيباً وإماماً.

وكنا له جلساء ورفقاء درب وتوافق أرواح … عرفناه هادئا آسراً وجنديا وطنيا وخطيبا منبرياً في صلوات الجُمع ولقد تصدى مع اخوته وزملائه في وزارة الخارجية لبرامج كبرى ليست في صالح البلاد ولا في صالح الاقليم الخليجي أو الأمة ذات النواة المدنية/ المكية العروبية.

منها لاحقا النأي عن الحماس الزائد من اخوتنا الخليجيين بالدخول في الاتحاد الخليجي بديلا عن مجلس التعاون، وعلاقته الشخصية برموز الخليج العربي أمثال المغفور له الأمير سعود الفيصل والأمير صباح الأحمد الجابر وأول وزير خارجية إماراتي معالي أحمد بن خليفة السويدي …. الخ.

وكذلك النأي عن حرب اليمن فيما يسمى عاصفة الحزم المؤسفة التي جاهدت عُمان على عدم قيامها.

كان دبلوماسيا بارزًا، درس الاعداديةَ في قطر سنة 1959، ثم اتجه إلى بريطانيا لدراسة اللغة برفقة صديقه الشيخ محمد بن حمد الحارثي ثم بعثة لدراسة اللغة الانجليزية في سنة 1968/69 ليتشاور مع رفيقه هناك لدراسة البكالوريوس في بغداد.

عاد – رحمه الله تعالى- مع بدايات النهضة المباركة متنقلًا بين الخارجية والاعلام ليستقر الأمر في الخارجية عملا يوميًا إلى أن استقر بمنزلٍ يلاصق وزارة الاعلام وكأن الشوق قد دفعه لهذه الوزارة التي بعثته لتعلم اللغة الانجليزية آنذاك عودة ثانية فيعود ويستأذن معالي عبد العزيز بن محمد الكتيني الرواس – رحمه الله تعالى، قامة وطنية بامتياز- الانتقال الى الخارجية.

تلا ذلك التنقل بين السفارات المتعددة خاصة الكويت أولا التي كتب في صحفها والتي اخرجت عبد الله يعقوب بشارة في بداية السبعينيات وليكونا لاحقا ضمن طاقم الخبرة في مجلس التعاون الخليجي من خلال رئاسة الدائرة العربية ومجلس الدولة ثم المكتب الاستشاري الخليجي مرة اخرى.

وقد كان واقرانه سابراً للدبلوماسية في جميع خلفياتها بين النظرية والواقع دون ان نغفل تقلده لوكيل الوزارة وكأنه الدكتور حسن صعب مؤلف كتاب علم السياسة واقتباساته من فكر سقراط وافلاطون وأرسطو اليونانيون ولا يضاهيهم إلا الفيلسوف ابن سلالة اليمن ابن خلدون الذي حظيت به تونس الخضراء.

قرأ ابو الخليل ويوسف مسارات ما بعد الخلفاء من الصحابة لسلطنات الأمويين والعباسيين فالفاطميين والتتار وأفعال المغول وانتصارات صلاح الدين الأيوبي مرورا حتى سلاطين العثمانيين دون إغفال لحضارة الاندلس أدبا وفكرا ومآلات التصدعات في سقوطها عبرة لمن شاء التبحر والتدبر.

وأسباب ومآلات تاريخ الحربين العالميتين والتي انتجت الكتلتين الشرقية والغربية وظهور دول وسقوط أخرى في سجالات الشرور البشرية كل ذلك كان كفيلا ان يصنع جبلاً راسيا تعتمد على أمثاله مدرسة الدبلوماسية العمانية بامتياز.

ولقد سار الشيخ أحمد بن يوسف مسارًا أصقل خبراته وعطائه الفكري للواقع العربي من خلال النشأة والتجوال بعقليةٍ ذات مصطلحات قرآنية تسقط الحلول كصحابة رسول الله وتحسم الأمور عند تجاذبات السجال بالمواعظ حينا وبالشعر الأدبي حينا آخر ما يُلزم الطرف المتعجرف والمتنطع وما يلبث هذا إلا أن يصمت إجلالا وتقديراً أمام قامة تفوقه، بل وتحمل فوق رأسها خزائن بيت الحكمة لهارون الرشيد.

وما ألقى هذا الرجل الكريم من محاضرة في النادي الدبلوماسي إلا وتتهافت القلوب إلى القاعة الدبلوماسية وتكتظ بالازدحام من ذوي الشغف بالعلم السياسي والفكري لسماع ورقته ثم النقاش والأسئلة وتسليط الأضواء على تسلسل الأحداث كيف كان تاريخها وكيف تسير وما هي المؤثرات والتدخلات بل والرؤية لما ستؤول اليه من مسار مستقبلي سلباً أو ايجاباً، وكيف يجب أن يكون موقف سلطنة عُمان بثقافتها وتاريخها الفكري وبنسيجها الإنساني والأخلاقي والواجبات نحو الأشقاء بين النصح والحوار والتزكيات بل وحتى رؤية التريث والاعتذار أحيانا وبلا مجاملات إلا في اليسير وفق الاطار السلطاني المرسوم بكل احتراف لوزارة الخارجية العمانية.

وما من رؤى مستقبلية استراتيجية ذات غاية وطنية عليا أرادتها سلطنة عُمان إلا وقد تحقق صوابُها بسبب استقلالية قراراتها بدون أي املاءات من قوى غير إقليمية أو تنازلات لها فيما يخص السيادة…

أخذ مع يوسف بن علوي بن عبد الله العلوي (قامة عمانية أصيلة) من صدام حسين في بغداد خلال فترة الحرب مع إيران ببغداد حين قال ان مصيرنا الجلوس للتفاوض رغم الحرب!

فقالوا له: هل نتوسط بينكم؟ … فقال صدام: أما أنتم أهل عُمان، فأهل نزاهة وثقة تضمدون الجروح بدون غاية وطمع وبدون مغلفات سياسية، فما كان منهم إلا نقلوا ذلك إلى السلطان قابوس رحمه الله الذي بارك التوجه وأرشد الى خطوط مراكز الثقل التي يجب حلحلتها وتسخيرها، فبدأت سلطنة عُمان بتجميع الملفات وتشكيل خلية المصالحة والزيارات المكوكية والتشاورية حينا والسرية حينا آخر، وإعادة الأمور إلى نِصابها ما أمكن وتبادل الأسرى ووقف الحرب.

وقد كان فقيدنا شاهدا على الكثير من الأحداث والتجاذبات الدولية وكأنه في غرفة إدارة عملياتية للجهود المشتركة بمسقط ينظر الى تلك الأحداث، كما كان شاهداً ينظر سفينة التنمية العمانية بكامل طاقمها وربانها الكبير السلطان قابوس بن سعيد – رحمه الله تعالى – وقد أصبحت تشق عباب البناء للكوادر التي أخذت على أكتافها تخطيط وتنفيذ الخطط والبرامج التنموية البشرية والخطط الخمسية التي تتجلى بخيراتها على أهل سلطنة عُمان عامًا بعد عام.

أحمد بن يوسف من حفظة القرآن والمداومين عليه وما كان يصلي الفرائض إلا في الجماعات، كان أديبا وشاعرا ومؤرخا ووطنيا هادئاً، إذا قال أسمع الحضور.

رحمك الله استاذا ومعلما وغيورا ووطنيا جابه معارك الفكر المختلفة عربية وخليجية أوروبية او اسيوية وطفرات أيدولوجيات ما بعد الحرب العالمية ومجابها بالحكمة دينا وأدبا وتاريخا، وطفرات على أيدلوجيات مختلفة.

الى رحمة الله يا أبا الخليل وأبا يوسف، والقلب قبل العين يبكيك، ويرجو لقاءك في جنة الخلد.. لقد أغمد عنا هذه الأيام (١٥-٨-٢٠٢٤ ميلادية) سيفٌ من سيوف حراب السياسة والفكر الصادق الذي عرف القرآن كتاباً إرشاديًا للأمة وعرف السيرة النبوية وركائزها ومدرسة اقتداء صحابة من عمان بصحابة رسول الله بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الذين ساروا على ما سار عليه محمد صلى الله عليه وسلم، ألا يا عُمان الأبية انه الفقد ثم الفقد، ولكنك أرضاً عظيمة خصبة ولادة، ومدرسة اقتداء بالصحابة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* بحار عماني وباحث في التاريخ البحري

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى